الرحلة الأولى.
السفر عبر الطائرة وركوب الطائرة بشكلٍ عام حدث طبيعي لشخص يعتبر ضمن جيل زد، أول مرة ركبت الطائرة كنت جذع (أي يعني بين 12-16 سنة) اعترتني احاسيس مختلطة بين خوف وحماس وهيبة حجمها الضخم ورغم ذلك إلا أنها تطير فوق أكثر من 5000 قدم. بالإضافة إلى إقلاعها وهبوطها الذي يشكّل إحساس غريب كما لو أنها ذروة حماس الوصول والخوف منها في آنٍ واحد.
غالبا
ما تساورني تساؤلات حول بداية الأشياء، وأعني بذلك الأشياء الروتينية في وقتنا
الحاضر، كيف بدأت؟ وبمَ شعروا الذين خاضوا تجربة الشيء الجديد؟.
لأن
في ظني بأن معظمنا تحمل ذاكرته البدايات الأولى لأغلب الأشياء.. أول تجربة قيادة،
أول رحلة إلى المدينة أو القرية، أول زيارة إلى مكة، أول مرة تسافر إلى خارج
السعودية.. وغيرها من الأسئلة المولعة بكسر ظلام النسيان.
وسؤالي هو: كيف كانت أولى رحلات المواطنين في بلادنا؟ ومن خلال بحثي البسيط وجدت أدباء قاموا بتوثيق رحلاتهم الأولى مثل:
الأستاذ محمد القشعمي عندما طار من الرياض إلى جدة عام 1374هـ 1955م والأستاذ عبدالقدوس الأنصاري عندما طار من جدة إلى الرياض عام 1366هـ 1947م والأستاذ عبد الكريم الجهيمان عندما طار من بيروت إلى القاهرة فباريس عام 1371هـ 1952م وأخيرًا اللواء الطيّار عبد الله السعدون ولكن تجربته مختلفة تمامًا لا سيما إنه طيّار.
1- كتب الأستاذ محمد القشعمي في جريدة الجزيرة عن رحلته الأولى من الرياض إلى جدة عام 1374هـ 1955م . قائلًا:
(تذكرت أول مرة أركبها من الرياض إلى جدة وبالعكس قبل ما يقرب من خمسين عاماً وبالذات في شهر رمضان 1374هـ وكنت أرافق والدي ليقضي شهر رمضان بمكة المكرمة إذ لم أتجاوز التاسعة من عمري، وكنت خائفاً وفرحاً في نفس الوقت، ولكن والدي - رحمه الله - كان يخفف عني لخبرته السابقة بإشغالي بالأسئلة ويطلب مني وصف ما أشاهده من جبال وأودية وقرى - إذ كنت بجوار النافذة وهو لا يبصر-).
وعلاقته مع الطائرة لم تكن من تلك اللحظة بل قبل ذلك، عندما كان في قريتهم. يقول:
(وعادت الذاكرة أيضاً عندما كنت في الثالثة من عمري في القرية وأثناء حرب فلسطين 1367هـ -48-1949م إذ كانت القرية تنام مع غروب الشمس فكنا نتعشى بين العشاءين وفجأة نهضت والدتي وزوجة عمي ونادين أطفالهن للحاق بهن عند سماعهن صوت الطائرة، ونور خافت كالنجم يتحرك بالسماء ليختفين تحت سقف حتى لا يرمي عليهن أحد شيئاً من الطائرة. وكن يقلن لنا إن بها ساحرات (الله يكفينا شرهن)).
2- كتب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في مجلة (المنهل) عن رحلته الأولى عبر الطائرة من جدة إلى الرياض عام 1366هـ 1947م .
(في المرة الأولى التي قدر لي فيها أن أمتطي صهوة الجو في طائرة عنيت في دقة بالغة، بتسجيل جميع الأحاسيس والخواطر التي شعرت بها وأنا في الجو منذ اللحظة التي وضعت قدمي فيها بمطار جدة، إلى اللحظة التي هبطت بي الطائرة في مطار الرياض.. فهذا إذن شريط من الخطرات الجوية، متلاحق الصور، متسلسل المناظر من بداية الرحلة حتى ختامها.. ولقد أرسلت فيه النفس على سجيتها فيها بمطار جدة فدونت عنها كل ما جاشت به على سجيته، وما تكلفت تنميق فكرة ولا زخرفة خيال ولا تعمقت في خاطرة ولا تعملت في أسلوب، وهكذا جاء المقال معبراً تعبيراً صادقاً عن خلجات النفس في ساعة من ساعات ابتهاجها، في رحلة شاسعة المسافات ولكنها خاطفة تراكمت فيها المشاعر والمناظر والأحاسيس، وهو أول مقال يكتبه كاتب سعودي على طائرة سعودية في جو سعودي وينشر في صحيفة سعودية على القراء، دوت محركات الطائرة السعودية بشدة قاصفة، وقيل للركاب: هيا.. وابتدأنا نصعد إلى جوف هذه (السمكة) الفضية الهائلة الطائرة، واحداً بعد واحد، ودخلت فيمن دخل فما شعرت بهزة قلق ولا باضطراب نفس، وكأنني أدخل سيارة وثيرة في رحلة ممتعة قريبة، وأحكم غلق الباب المجوف علينا، وجلس كل منا على كرسيه، وازداد دوي المحركات، وزأفت الطائرة بعجلاتها على الأرض كما تزوف القطاة حينما تهم بالطيران، ثم بدأت تنفصل رويداً رويداً عن الأرض.. لقد بدأت في الصعود، وبدأت في الطيران.. وكان أمراً عادياً لم نشعر معه برهبة ولا ارتجاج.. ثم علت وتسامت في العلو حتى انتظم استواؤها على متن الجو متجهة صوب المشرق في سرعة خاطفة وهدوء عجيب.. يا الله! نحن الآن بين طيات الجو، كطير من الطير، ولقد ظهرت لنا الجبال الشامخة الذرى أشبه شيء بالأكوام الصغيرة التي يصطنعها الأطفال من الطين.
ها هي الطائرة تزداد ارتفاعاً وتغلغلاً في أعماق الجو كالنسر المحلق الممعن في التحليق.. وها هي الآن قد بدأت تتأرجح قليلاً ذات اليمين وذات الشمال، بفعل الرياح المتموجة في هذه الطبقة العالية من الأجواء ما يزال الصمت والهدوء يخيمان على الركاب جميعاً فكأن على رؤوسهم الطير، أنفاس تعلو وتهبط، وعيون حالمة تشخص، وأدمغة تفكر وتعتبر، تفكر في عظمة الخالق: خالق هذا الكون الرحيب، وخالق هذا المركب الطيار العجيب {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.. صدق الله العظيم.
(أود أن أنظم قصيدة رائعة في جمال وجه الفضاء الرحيب.. ولكن مع الأسف لقد سبقني الرصافي إلى ذلك حينما نظم قصيدته البارعة في الفضاء وقال في مطلعها:
جمالك يا وجه الفضاء عجيب
وصدرك يأبى الانتهاء رحيب
فقد حلّق به شيطان الشعر إلى هذه الطبقات فوصفها بأمتع
الأوصاف
أنا في الجو أشعر بنشاط خير من نشاطي على
الأرض.. فهل كان هذا لأنها الرحلة الجوية الأولى؟ ولطرافة الجديد على المرء؟ أم هو
تحسن حقيقي في الصحة نشأ من هذا الارتفاع عما تحتويه الأرض من أقدار وأكدار
وأوخام؟!
هل دخلنا منطقة المهاوي (المطبات)؟.. فها هي الطائرة الآن
بعد سير (35 دقيقة) يشتد ترنحها ويزداد مقياس اضطرابها عن ذي قبل. ثم هل سمونا فوق
منطقة النهود (النفود)؟ وهل أوغلنا في السير أو في الطيران على أحكم منطق حتى
تغلغلنا في المنطقة النجدية الفيحاء؟ لقد تخلفت عنا هياكل الجبال بعد سيرنا أربعين
دقيقة وتجللت من تحتنا الآن منطقة رملية بيضاء تنوح شبه حصير أبيض عريض الجوانب
مشرق البياض نثر عليه ذرور أسود، هو هذه الأشجار وهذه الأعشاب.
لقد رحب الجو، وانحسرت (براقع) وجه السماء: (السحاب
والضباب) فبدت زرقة السماء في غاية من الجمال والبهاء والروعة والجلال، ولقد ألفى
الهواء الطلق الممراح، أوسع (مسرح) له في طبقات هذا الجو الأفيح الضاحي الرحيب
فلما لا تعبث أصابعه الجبارة بهذا المركب الجريء الضئيل؟!! وقيل لنا إن الطائرة
وصلت في علوها إلى (7) آلاف قدم, فهي في وجيب دائم, وفي حرب مستعرة وفي مبارزة
صارخة مع العواصف المزمجرة ولقد دلتنا على نشوب هذه المعركة الجوية السلمية، هذه
الاهتزازات العنيفة المتتابعة، تجاوزنا الآن منطقة الرمال، وعلونا منطقة الحرارة
المكفهرة التي جثمت من قديم على صدر هذا السهل المغراق المتجرد، إبقاءً على
ذاتيتها وضماناً لحيويتها, الآن، والآن فقط، بدأ الركاب يتحدثون: لقد انطلقت
ألسنتهم من عقال، وزالت عنهم رهبة الجو والطيران، ورأوا كل شيء عادياً ومألوفاً، واذا
اعتاد الإنسان أمراً هان عليه أمره، وانزاح عن صدره كابوس الرعب والإشفاق:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لقد شربت ماءً مثلجاً في طبقات الجو العالية وعلى ارتفاع
نحو 8000 قدم عن سطح الأرض التي ولدت بها وترعرعت فيها وكبرت هذه حقيقة بسيطة
ولكنها عميقة الشاعرية، ولذلك ها أنا أسجلها في اللحظة والتو).
{وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.. وهذه
الطائرة من جملة خلقه تعالى، الذي لم نكن نتقنه في سالف القرون وأن همهم بتخيله
شعراؤنا الأوائل فقال أحدهم ساهماً حالماً:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي
فقلت ومثلي بالبكاء جدير:
أسرب القطا! هل من يعير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير
وإن همّ باستنباطه أحدهم: ((العباس بن فرناس)) فضاعف جهوده
أوضاع وجوده أدراج الرياح لأن لكل زمان فعالاً ولكل جيل مجالاً مقدراً محدوداً لا
يتخطاه وإن حاول كل المحاولات نحن الآن فوق سبخة من سباخ الجزيرة وإنها لا تبدو في
رأي (الطائر) كصحن مفلطح ناصع مدهون، أو كطست من نحاس موه بالقصدير، وها هو خط
السيارات يقابلنا أيضاً لنقطعه أيضاً بسرعة هائلة.. بين كل فترة وأخرى نقابل هذا
الخط المتثني ونقطعه قطعاً جوياً.. مرة بالطول وأخرى العرض.. وإذا فاتنا خطوط
الطيران هنا توازي في أغلب الأحيان خط السيارات.. وها هو خط السيارات وقد هرب من
تحتنا يتثنى في هروبه تثني الأفعوان المغير، ضارباً بجرانه في الصحراء البلقاء
الممتزجة الحرار السود.. ها هو هارباً يعدو نحو الشمال عدو الظليم رآي القانص، وذلك
لكي يجد لنفسه منفذاً يسير فيه سالماً ومتنائياً عن هذا السبع الكاشر الأنياب
المفترس الغرثان: (منطقة النفود) وتقولوا سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنا له
مقرنين. ها أنا الآن أشاهد جناحي الطائرة الممتدين في الفضاء امتداد ذراعي جبار
مارد، أشاهدهما يعلوان ويهبطان في حركة سريعة هادئة، وكأنهما كفتا ميزان الطائرة
فيعلو جانب منها بعلو أحدهما، ويهبط منها جانب بهبوط الآخر، فهي إذن في هبوط
وارتفاع بين هذه المهاوي (المطبات) الأثيرية المتحجبة عن الأبصار، وإنها لمهاوٍ
عنيفة الوقع ولكنها خفيفة التأثير إذا قارناها بمهاوي السيارات في طرق غير منظمة.
تلك المهاوي التي تكاد تخلع نياط القلوب.. وهذا (بحر أبيض متوسط) من نفود يقع بين
(بحرين أسودين) من نفود يكتنفانه من هنا وهناك
والآن لقد زاد ارتفاع الطائرة عن 8000 قدم وبذلك انمحت معالم الأرض عن النظر تماماً، وبدأت معالمها من تحتنا كالبخار أو كالضباب أو كالهباء.. واقتربت بنا الطائرة من منطقة السحاب.. وتأملت منظر السحاب ونحن قريبون منه فبدا لي كالخيل المفلتة من حبل مجريها
لأول مرة، وفي الساعة 3:20 من مسيرنا أو من طيراننا على الأصح، أتيح لي أن أرى حيواناً يسير على الأرض ، لعله بقرة أو لعله حمار. لا أدري وعلى كل فإنه اهل مستأنس يرعى الكلأ بهدوء واطمئنان، وهذا قطيع من الغنم السود تسير في هذا المسيل الجاف ترعى من عشبه وشجيراته، فهي كخيط أسود عريض ممتد متحرك، أما الراعي فلم نشاهده ولعله كان يتفيأ بعض الظلال عن هذا الهجير اللافح، فقد بدأت الطائرة تنخفض رويداً رويداً عن مستواها السابق، فلعل الرحلة السعيدة الأولى من نوعها بالنسبة لي وللزملاء، لعلها موشكة أن تتم قريباً، ها هي الشمس وقد بزغت علينا في نوافذ الطائرة من الجانب الجنوبي.. اذاً لقد بدأت تستدير، لتهبط في استدارتها على المطار.. لقد طالعنا صحفاً غضة من مصر في طائرتنا ونمنا، وطعمنا وشربنا وتحدثنا، وتبادلنا الضحكات والنكات البريئة، وكان كل شيء عادياً وجميلاً ومؤنساً وأنيقاً، حتى الجو الرهيب كان لرهبته في أنظارنا جمال ورونق عجيب وسرعان ما أنسنا به وأنس بنا، فكأننا أصدقاء قدماء متآلفون
لقد بدأت الطائرة الآن في الهبوط الصادق تدريجياً أحسسنا بذلك إحساساً مركّزاً، إذاً لقد وصلنا (الرياض).. وإنها الآن لتدور دوراناً منظماً وتهبط هبوطاً منظماً هي الأرض تقترب منا أو نقترب منها على الأصح رويداً رويداً وها هي معالمها وسكانها وما عليها من دور وأشجار وجبال كل ذلك بدأ ينماز لنواظرنا انميازاً واضحاً يزداد وضوحاً بين كل ثانية وأخرى وها هو دوي الآلات يخف قليلاً قليلاً.. وفي الساعة 3:45 هبطت الطائرة ولامست قوادم عجلاتها الأرض وها هي تزوف بذيلها كما تزوف الحمامة حينما تقع على الأرض من طيران شاهق، وها هي تعدو بها عجلها عدو الظليم المطار العظيم، لقد انقلبت الطيارة سيارة في هذه اللحظة الموقوتة، وها هي تقف بعد أن استكملت دورتها الفنية من السير الحثيث، تقف في انتظام واتزان، فلا ارتجاج ولا اهتزاز ولا اضطراب ولا إرهاق، حقاً إن الطيارة الحديثة نعمة عظيمة من نِعم الباري جل وعلا علينا.. كل شيء هادئ.. وها نحن لقد عدنا من (سكان الأرض) بعد أن مكثنا ثلاث ساعات وكسْرٍ من (سكان الجو) وها نحن ننزل من سلم الطائرة إلى أرض المطار بسلام وارتياح بعد رحلة ممتعة وسفر سعيد -إن شاء الله-).
3- كتب الأستاذ عبد الكريم الجهيمان عن رحلته الأولى بالطائرة من جدة إلى دمشق فبيروت فباريس قائلاً:
(وفي
صباح يوم الخميس الموافق 18 شعبان سنة 71 ركبت الطائرة من جدة إلى دمشق، وكان الجو
صافياً ومعظم الأراضي التي نمر بها سهول وهضاب صغيرة، فكان سير الطائرة هادئاً
وكانت تتمايل بين حين وآخر، ولكنه تمايل رزين لا إزعاج فيه ولا تكدير.
وعندما اجتزنا نصف الطريق تقريباً - تغيرت المناظر وصرنا
نمر بجبال شاهقة وعندئذ تغير سير الطائرة وصارت تعلو ثم تعلو ثم تهبط ما علته دفعة
واحدة وصرت أشعر بأن روحي تعلو إلى التراقي بقدر ما تهبط الطائرة إلى الأرض حتى
إنني أشعر في بعض الأحيان أن روحي تكاد تفارق جسمي.
ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً فسرعان ما اجتزنا هذه الجبال
وباجتيازها عادت الطائرة إلى سيرها الهادئ الجميل. ولكني على الرغم من هدوئه كنت
أشعر بشيء من الضيق والملل، كما أنني أشعر بطول الساعات والدقائق فكان الزمن في
الطائرة يتضاعف فتصير الساعة ساعتين والدقيقة دقيقتين، وقد يكون هذا الأمر راجعاً
لأن الإنسان يشعر بأنه محتوم عليه أن يبقى مدة معينة معلَّقاً في الهواء لا اختيار
له في الصعود ولا في الهبوط..
وقد يكون مرجعه أن الإنسان يشعر بشيء من المخاوف ويمر بباله
كثير من الهواجس السوداء. وبعد قيامنا من جدة بثلاث ساعات ونصف الساعة دخلنا
الحدود السورية فصرنا نمر بمروج خضراء وقرى متناثرة ذات اليمين وذات الشمال وبعد
ساعة من دخولنا الحدود السورية وصلنا إلى مطار دمشق فنزلنا فيه وبقينا به نصف
ساعة، ثم واصلنا سيرنا - أو طيراننا - فحلّقنا فوق دمشق ورأيناها من الجو في شكل
مثلث تستند من ناحية الشمال الغربي على جبل فاسيون وأمامها من ناحية الجنوب الشرقي
مروج خضراء هي غوطة دمشق.
ولاحت لنا على بُعد جبال شاهقة هي جبال لبنان، وقد لاحظت أن
في أعاليها خطوطاً بيضاء، ولكني لا أدري ما هي، وقد علمت فيما بعد أنها بقايا
الثلوج التي لم تذب بعد الشتاء.
علوْنا على جبل لبنان وكانت الطائرة تعلو تارة وتهبط أخرى،
وكنا نرى القرى والبيوت في سفوح الجبال وطرق السيارات تتعرج في تلك السفوح وتلتوي
على جنباتها ، وكنا نرى الجبال مكسوة بالأشجار والمزروعات. ولاحت لنا بيروت وهي
ترتكز من ناحية الشرق على جبال ومزارع ومن ناحية الغرب يحف بها البحر الأبيض
المتوسط وقد مكثنا في الجو ما بين مطار دمشق ومطار بيروت ما يقرب من أربعين دقيقة.
أزف الرحيل إلى باريس - عن طريق القاهرة - وكنت أحمل همّاً
ثقيلاً لأنني لا أحسن من اللغة الفرنسية شيئاً كما أن بضاعتي في اللغة الإنجليزية
بضاعة مزجاة، وفوق هذا وذاك فإنني أعرف أن الطائرة ستقذف بي في باريس، وأنا لا
أعرف عنوان المفوضية السعودية فيها، كما أنني لا أعرف عنوان المكان الذي يقيم به
صاحبي. وكنت حائراً مهموماً وهكذا خُُلق الإنسان عجولاً فهو يهتم بالأمور ويتطلب
حلول المشاكل كل قبل وقوعها، ويريد النتائج قبل المقدمات ويتطلع إلى علم الغيب مع
أنه يعلم أن علم الغيب محجوب عنه بستار سميك لا تخترقه الأبصار ولا تحيط به
الأفكار.
حجزنا قبل السفر بأربعة أيام مركباً في طائرة من طائرات أير فرانس ذات الأربعة محركات وكان ميعاد قيام الطائرة في الساعة العاشرة صباحاً حسب التوقيت الأفرنجي وذلك من مطار بيروت الدولي فحضرنا إلى المطار في الساعة التاسعة وعملنا جميع إجراءات السفر، وقد وجدنا من الموظفين المختصين كل عناية وتسهيل، وفي تمام الساعة العاشرة كان الركاب قد تكاملوا في الطائرة وأغلقت أبوابها وتحركت مراوحها واحدة بعد أخرى، ثم مشت تتهاوى وتجر معها جسمها الهائل الكبير..
فلما بلغت نهاية المطار وجهت وجهها تجاه الريح واشتغلت
مراوحها بجد ونشاط تحفُّزاً لمغادرة الغبراء إلى جو السماء وظهرت الإشارة الحمراء
بمنع التدخين وشد الأحزمة وصارت مضيفة الطائرة تدور على الركاب منبهة من لم يشد
حزامه بضرورة شده، ثم هزت الطائرة جسمها الثقيل وركضت ركضاً سريعاً ثم ما زال هذا
الركض يتزايد حتى اقتلعت نفسها من الأرض وحلّقت بنا في جو السماء.
عندئذٍ فككنا الأحزمة وصرت أتطلع من نافذة الطائرة فلا أرى
إلا ماءً وسماءً وأتطلع إلى الركاب فأجدهم يتكلمون بلغات لا أفهمها وصارت مضيفة
الطائرة تمر على الركاب وتسألهم واحداً واحداً - عن طلباتهم ورغباتهم - فيجيبونها
ويطلبون منها ما يريدون، فتجيبهم إلى طلبهم وجاء دوري في الكلام فكلمتني فلم أفهم
كلامها، ثم حاولت مرة ثانية أن أفهم منها شيئاً فلم تفلح فتحيرت هي وخجلت أنا
وانكمشت وصغرت عند نفسي وتضاءلت حتى صرت لا أكاد أحس بوجودي. ثم قالت لي: هل تتكلم
الإنجليزية؟ فأجبتها قليلًا، فسألتني ماذا أريد أن أشرب. فقلت لها ماذا عندك فطفقت
تعدد الأصناف فاخترت منها صنفاً وأنا لا أعرفه وانحلت أول مشكلة.. وشعرت أن
الكابوس الذي كان جاثماً على جسمي بدأ ينقشع قليلاً قليلاً وبدأت أستعيد ثقتي
بنفسي وأشعر بشيء من الراحة والاطمئنان.
وبعد قيامنا من بيروت بساعة ونصف الساعة - تقريباً رأينا
سواد مصر وعمرانها ورأينا نهر النيل وبدأت الطائرة تهبط حتى نزلت في مطار القاهرة
الدولي ورأيت الركاب ينزلون من الطائرة فنزلت معهم ثم توجهوا إلى أحد المطاعم في
المطار فسعيت في زمرتهم وصرت أُقلِّد الركاب في حركاتهم وسكناتهم تقليداً أعمى
وذلك خوفاً من أن آتي عملاً يلفت نظر الركاب إلى جهلي وغباوتي.
وقد بقينا في مطار القاهرة ما يقرب من ساعة تمت في خلالها إجراءات ركاب القاهرة إلى باريس وفي تمام الساعة الثانية عشرة والنصف كان الركاب - جميعاً - قد تكاملوا في الطائرة.
استقللت الطائرة من مطار القاهرة متجهة إلى باريس عن طريق
نيس، وبقينا ما يقرب من ساعة ونصف الساعة ونحن فوق الأراضي المصرية نرى مروجها
ومزارعها ونرى نهر النيل يلتوي خلال تلك الأراضي ويتفرع منه جداول صغيرة - في نظر
ركاب الطائرة - تذهب يمنة ويسرة لري الأراضي البعيدة عن مجرى النيل.
وجاء وقت الغذاء وكان من لطف الله بي أن غذاء كل راكب مقرر
لا يحتاج فيه إلى سؤال ولا جواب، وصارت مضيفة الطائرة تدور على الركاب وتعطي كل
إنسان غذاءه وكانت الطائرة سائرة فوق البحر الأبيض المتوسط فاعتدل طيرانها وصار لا
يزعجنا منها إلا دوي صوتها.
ولما قربنا من إيطاليا تكاثرت السحب. وحالت بيننا وبين
الأرض وصرنا نرى السحب يعلو بعضها بعضاً ونشاهدها في أشكال متباينة منها ما هو عال
كالجبل ومنها ما هو هابط كالوهاد وأقبل علينا الليل فلفّنا في غلالته السوداء
وأحسسنا ببرد قارص، وكان كل راكب مزوداً ببطانية - غطاء - ووسادتين.. فكان فينا
النائم وفينا اليقظان. وكان من جملة الركاب شخص مضحك يقضي معظم الوقت يغني ويهز
رقبته وبعض أعضاء جسمه ويأتي بنكت ومضحكات كانت سلوة الركاب ومبعثاً لمرحهم
وسرورهم طيلة ساعات الطريق)).
4- كتب اللواء الطيار عبد الله السعدون في كتابه (عشت سعيدًا.. من الدراجة إلى الطائرة) عن محاولاته الأولى في الطيران بعدما أنهى السنة الأولى من الكلية بنجاح وانتقل إلى جناح الطيران قائلًا:
في
الرحلة الأولى شرح لي المدرب كيف أحرك الطائرة من موقفها إلى المدرج. يقول لي: استخدم
المكابح كالسيارة تمامًا، تلتفت يمينًا ويسارًا قبل الدوران لأي اتجاه، كما تفعل
عندما تقود السيارة تمامًا.
ذهبت
مع المدرب إلى مكان وقوف الطائرات، شرح المدرب كل شيء. لا بد من التأكد أنها بحالة
ممتازة، الزيت والماء والإطارات. تمامًا كما تتعامل مع سيارتك، تحركت الطائرة على
الأرض، طلب مني المدرب أن أقلد كل حركاته وأن أتبعه في كل ما يعمل. أعطاني المدرب
فرصة أن أجرب ما شرح لي وأطبّقه أمامه، لكنني أبالغ في رد الفعل في كل حركة،
والمدرب يفقد صبره ويقول: في الأرض تتحرك الطائرة كالسيارة، أخذ المدرب الطائرة
وفجأة صرت معلقًا لأول مرة بين السماء والأرض. كنت خائفًا من كل حركة، تميل
الطائرة فأكاد أمسك بالمدرب، تخيلت نفسي فوق أرجوحة مجالها الفضاء الواسع، نزلنا
من الرحلة وعدنا إلى السرب. في غرفة الإيجاز سألني المدرب: لماذا تبالغ في رد
الفعل؟
يكتشف
أنني لا أعرف شيئًا عن قيادة السيارة. يضحك المدرب ويلومني على إخفاء الحقيقة، قال
لي: الأرض مكان الشرح والأسئلة والتوضيح، وفي السماء نطبق ما تعلمناه، ليس العيب
أن تسأل، لكن العيب أن تدعي المعرفة.
اعتقدت في الرحلات الأربع الأولى أنني لن أجتاز هذه المرحلة، خاصة أنني سمعت عن كثير من الإخفاقات لأسباب مختلفة، وحتى المدرب كانت لديه شكوك في نجاحي. في الرحلة الخامسة قررت أن أتعامل مع الطائرة دون خوف وحزت رضا المدرب، فقا ل لي بعد الرحلة مباشرة: ستكون طيارًا. زادت ثقتي بنفسي، وكان هذا ما أحتاجه).