ما بين خياطة الأرواح والملابس.
جدتي.. ما بين خياطة الأرواح والملابس
"معاذ تعال انظم لي إبرة المكينة وأعطيك خمسه ريال". أعذب جملة سمعتها في طفولتي، عذوبة الصوت والمكافأة. لذتها كانت كل مرة تزيد، رغم تكرارها عدّة مرات، مازالت عذبة. في سن صغير، لا أعرف السبب وراء ذلك، إن كانت الخمسة أو الاحساس بقدرتي الهائلة، لا يمكنني تحديد أيهما أقرب، ولكني مستمتع بالفعل والمكافأة أكثر.
فتحت عيناي على أشياء كثيرة، من بينها، مكينة خياطة جدّتي، ضخمة الشكل -حينها- كانت درجين مليئة بالمكرَه -سلك الخياطة- والإبر، وأعلَاها الماكينة نفسها، بلونها الأسود ونقوشها الذهبية، غالبيّة وقت جدّتي عندها، أظن أنها لم تكن تخيط فحسب، بل تستمتع، تنجز، تملء فراغها.
لا أعرف متى بدأت، ولكن المتأكد منه هو ابداعها وتمكّنها، أتذكر الطلبات الكثيرة، من البيوز برسماتها المتنوعة، بأطرافها الهرمية، بأشكالها المُتعدّدة إلى الملابس بجميع أنواعها.
"مُعاذ.. تعال انظم لي الإبرة" صوت القرآن تسمعه منذ اقترابك من غرفتها، تدخل عليها تراها ثَانِية قدميها تحت فخذيها، وأمامها المكينة، وجهها العذب، من مقدمة شعرها الناعم الوافر ومنتصفه حتى أسفله مجدل، تجاعيد الوجه خلفها سنون طويلة من الفرح والترح، الهم والغم، والسعادة والمرح، والابتسامة البسيطة المليئة بالرضا على كلّ شيء حدث ولم يحدث، بالإضافة إلى قدرتها على حياكة أرواحنا. بعدما ألبي طلبها، تعطيني الخمسة دون علم أحد كأنه بخشيشًا أو صفقة مواد محظورة. كل الفصول/الأوقات نفس الحال، تخيط وتخيط -مرتان لأن الأولى عملُها والأخرى جروحنا بكثافة وجودها بيننا- وصوت القرآن، ويشاركه -على الدَّوام- صوت الماكينة.
كبرت -أثناء ذلك جاء قدرها- كبر جرحي، وما زالت الخمسةُ هي الخمسة، ومكينة الخياطة حتى هذه اللحظة موجودة.. كلما رأيتُها أقول كلَانا نحتاج إلى خيّاط.. حتى بدون الخمسة.