ماذا لو عشت الخطيئة مرتين؟
ماذا لو عشت الخطيئة مرتين؟ ربما لن تفعل شيء، وربما لا يحدث أصلًا. وربما..
قضى
الليلة الماضية مع اثنين من أصدقائه في استراحتهم بضاحية نمار، يجّهز أحمد الشاهي،
تختلط روائح العطور مع رائحة الدخان، حضور رهيب للملل والفراغ، فلم يكتمل نصابهم حتى
يلعبوا بلوت ولم يكن هناك حديث بينهم. ساد صمت طويل استطاع من خلاله أن يغفو سالم وهو
مستلقيا على الكنب مع إراحة كوب الشاهي على كرشته الناتئة.
أحمد
يجلس صامتًا وقد مد رجليه واحدة فوق الأخرى فيما هو يتكئ على المركى بمرفقه اليمين
واضعا يداه على خدّه يتصفح تطبيق إكس، يتنقل بين الأدب والسياسة والكورة وحسابات شخصيّة
تعبّر عن حياتها بهزل بشكلٍ سريع، لا شيء يعجبه. يدخل السناب شات وبشكل سريع وغير مهتم
يرى قصص أصدقائه ومن يتابعهم ومن لم يتابعهم من ثم يترك الجوال بجانبه ويكمل كوب الشاهي.
وأثناء
ذلك نظراته زارت المكان كامل، بعدها سقطت على قدماه، تذكّر رغبة والدته: "وراه
ما تروح للتأهيل؟ علّ ترجع الفلوس اللي كانوا يعطونك إياها" مستشهدة بـ:
"سارة بنت أم محمد الـ*** نفس حالتك قبل كان يجيها ثم فجأة وقف، راحت تسألهم قالوا
لها جيبي تقرير جديد عن حالتك، ويوم جابت لهم رجعوا يصرفون لها" صمتت بانتظار
ردّة فعله، فلما وجدته لم يقل شيئًا أردفت: "رح جرّب، دامك فاضي". أومأ برأسه موافقًا ثم اطّلع على جدوله المزدحم بالفراغ،
قرر على أنه يكون صباح الغد.
أنه
على دراية تامة عن حالة قدمه مذ ولادته عندما تلقت والدته الخبر بشكل مفاجئ حتى تأكيد
الطبيب ضرورة حاجته للتدخل الجراحي هذا ما سمعه من والدته في أوقات كثيرة ولأسباب كثيرة
مختلفة أيضًا. لا يشعر بالخجل إذ طلب منه حكايتها لا سيما أنه يظن بأنها حكاية انتهت
منذ الطفولة.
ولكن
أحيانًا يفكر فيما لو تزوج وورّث له ذات الأمر ماذا سيحدث؟ يبقى السؤال يتردد في
ذهنه دون معرفة احساسه أو إجابة عن ذلك.
يقود
سيارته على طريق الملك فهد باتجاه الشمال، قاصدًا محل شيشة في إحدى محطات طريق القصيم
السريع، يختار أغنية بشكل عشوائي، بالمصادفة تكون لمحمد عبده، لا يحبّها ولا يحبّه،
بيد أنّ يذكر أغنيتين له يحبهما جدًّا. يغيّرها، يتفاجأ بأنها واحدة من الاغنيتين،
"ما تمنيتك". كما لو أنها تحت طوع يديه، هدأت أفكاره مع بداية الأغنية، ظلّ
يسمعها بكامل جوارحه، فيما رأسه يهزه مع اللحن، حتى وصل ذروة شعوره وخياله في الآن
نفسه، بدت له الحياة أقل وطء، وتقبّل ما لم يتقبله، أثناء ما كان يسمو ويطرب مع الأغنية
عدّا من المحل.
حوالي
الساعة السابعة صباحًا من يوم الإثنين، غفى أحمد على الكنب الواقع آخر المجلس، الذي
يعطي انطباعًا عن صاحب البيت من حجمه، ضوء الشمس اخترق النافذة الموجودة أمامه وحاول
منع خيوطها من توزعها على ملامحه من خلال شماغه حتى اكتمل ضوء الشمس حتى صار مزعجًا
له وغير قادر على اكمال نومته ولكنه ظل ساكنا في مكانه لأن يحاول التخلص من النعاس
الذي يشعر فيه.
نجحت
طريقته بالخلوص من النوم، قام يغتسل وصلى الفجر من ثم خرج.
الساعة
الثامنة صباحا، بداية ذروة حرارة الشمس، يقف أحمد عند الفوَّال، طلب وجلس، وصل طلبه
وهو في ذروة جوعه. بدا يأكل ويوزع نظراته على الكل حتى صارت على تجاعيد السوداني أبو
لطيف الفوَّال، يبلغ من العمر خمسين عامًا، يعرفه أكثر من الذين يعملون معه، علاوة
على أنه خلق معه كمّ هائل من الحوارات والأسئلة أثناء ملل الانتظار، كما إنه يعلم جيّدًا
مدى متعته بالشِّعر الشعبي والفصيح، ذات يوم كانت الساعة تزحف باتجاه الظهيرة وجد المحل
فارغ بعدما انتهى الفول من أول الصباح، جلسا يفطرون معا حيث بقي ما يكفيهم وحدهم، وأثناء
ذلك بدا يخبره عما يحفظه ويذكره من الشعر انطلاقا من تعبيره عن احساسه بالغربة
والوحدة يقول المتنبي:
"وحيدٌ
من الخلانِ في كلّ بلدةٍ
إذا
عظُم المطلوبُ قلّ المساعدُ"
وفي
نفس المعاناة ولكن بالشعبي يقول زايد الرويس:
"ياشينها لا صارت أرضك منافيك
غريب
في أرضك وناسك ودنياك"
أما
عن الحنين الوافر في صدري يقول عنه ياسر المفرج:
وجه
الحزن ماله عذر
يقدر
لباس الأقنعة
بسّ
الحنين المنتثر
من
غير وجهك يجمعه؟"
صمت
برهة قصيرة، تنهد كما لو إنه يستعد لقول حقيقة غائبة ثم أردف: على كل حالٍ أنا
ماضٍ مع الأيام حيث تشتهي، لم يعد أمامي حلم أجازف لأجله كما قال فارس فايح:
"شايلني
العمر يركض بي ولا أدري لوين
أخاف
حتى الممات يقول وش جايبه؟"
دفع
الحساب بعدما التهم فطوره بسرعة ثم خرج متجها إلى موعده. وصل، مبنى كبير وقديم
يعود بنائه إلى التسعينات الميلادية، لم يكن حوله شيء، يستقر وسط الحي، يمكنك
رؤيته من بعيد مثل وحش أسطوري، ولكن الآن غاص بين هذه المباني، هذا ما ذكره والده
عنه.
دخل
مكتب السكرتير كما وجّهه موظف الاستقبال، فوجد أربعيني ممتلئ ألقى جسده على الكرسي،
أمامه كومة أوراق وكوب شاهي وصوت أم كلثوم.
"السلام
عليكم، تفضل جبت تقرير جديد عن حالتي"
لم
يجب، أخذه يقرأه، تفقّد مصدره جيّدًا، ولوهلة تأمله ثم قال: "أبشر".
"خلاص
حدّثت بياناتك".
كل
هذا حدث خلال دقيقة.
يسير
على طريق القصيم السريع متجها نحو مسقط رأسه سدير، هناك علاقة عميقة وقديمة مع
سدير، يكمن شيء خفي وداخل يشدّه نحوها، ويهفو قلبه إليها، يسأل عن أحوال أهلها،
تشغل حيّز من باله.
مزرعة
والده يذكرها كما لو أنها قطعة من جسده، عندما وقف أمامها أول مرة، كان جَذَع، وقف
أمام بابها الحديدي الضخم، لا يستطيع فتحه وحده، المجلس الذي يمكنه ضمّ كل من
يعرفهم، وتفوح رائحة القهوة والشاهي طوال الوقت، تحفّه النخيل من كل جهة وصوت صليل
الماء بالإضافة إلى صوت جاء من آخر المزرعة وهو صوت الدجاج والحمام.
رغم
امتداد هذه العلاقة إلا أنه ظل وقت طويل لم يزرها بعدما والده لقى حتفه أسفر إلى
نزاعات وخلافات فيما بينه وبين إخوته الذين يكبرونه سنًا غير أنهم تقسّما إلى
حزبين، الأول يريد بيعها محتجا بأن علاقتهم مع سدير انتهت والآخر ضد ذلك تمامًا.
أثناء
ذلك ذهب لها بالسر، بدون سبب واضح، إنما رغبة ولدت من رحم الخلافات وهي حرق كل ما
في هذه المزرعة ولكن بزوغ صور من ذاكرته تحمل في طياتها صوت والده عندما يمتلئ
المجلس عن آخره بالرجال مناديا "وين القهوة؟" والأطفال انتشروا في أرجاء
المزرعة.
كل
هذه الصور والذكريات أشعرته بالحنين واللهفة لوالده أدت لدفن الفكرة كما لو أنها
لم تجيء باله من قبل ورجع إلى الرياض.
ترك
ورائه ذكرياته وحنينه متجها إلى الرياض، أرسلت السحب الركامية إحساسا بنزول المطر
فيما هو يشغل أغنية محمد عبده "ما تمنيتك" هذه المرة برغبته. انتجت
سرعته العالية هواء يضرب النوافذ ويصدر صوتا مكمما.
هطل
عليه المطر غزير جعله يسير ببطء، وأخفض صوت الأغنية ليسمع المطر وهو يضرب الزجاج
الأمامي ويشكّل على محياه ابتسامة كبيرة تصل حد أذنه.
دقائق
ثم توقف تمامًا وعادت السماء صافية، وبقي أثر المطر أعلى السيارات يلمع، ورفع الصوت
مرة أخرى، كل شيء يهيئ بالغوص في اللحظة، أن يصل ذروة شعوره، يرتشف شيئًا من إحساس
الأغنية، لحظة أحدثت كوّة صغيرة، نفذ منها مع وجه، لا يعرفه ولا يذكره بعينه إنما
هذا ما شكّلته مخيلته عن المثل الأعلى للجمال.
تجلس
بجانبه، يلتفت نحوها، لا يصدّق، ثم يصب تركيزه بالقيادة، لا تتحدّث وربما تتكلم ولكن
يعجز عن سماعها، ينظر المرآة الأمامية فيجد طفلة تنادي "بابا" يستمر في
طريقه حتى يصل إلى مبنى كبير وقديم، ذهب نحو السكرتير فإذا به يوجهه نحو الطبيب،
وصل عنده: "ممكن تكشف للبنت؟" كان يتأملها في ذلك الأثناء، جاءته رغبة
بأنه يجلب أي آلة حادّة ثم يجرح ساقيهما لكي تتخلص من آلامها منذ البداية وآلامه الممتدة
منذ صغره، فتفور دمائهم وتختلط ببعضها، تنتهي الأغنية، حينها ينتبه بأنه أدمى
ساقيه وحده وهو متوقّف على قارعة الطريق.