مبنى 5.

 


أصغي إلى هواجسي وخيالاتي التي تحوم حول عمليتي، استولت على رأسي تمامًا لذا لزاما علي أنصت لها. أسير مع الأفكار حيث تشتهي وتنبغي، أثناء طريقي إلى المستشفى قطعت شوطا من الطريق والأفكار في الآن نفسه، بدا لي أن كل شيء بهذه المدينة انطفأ واختفى ضوضائها، سرت في درب يحضر فيه القمر بكامل زهوه، ونور السيارات الخامل يحاول كسر الظلام دون جدوى، يومض نوره بعد مسافة قصيرة مثل ذكرى قديمة لا تحمل اتجاهه حسنة ولا ضغينة.
وصلت المستشفى والساعة كانت تزحف نحو العاشرة مساءً، أمشي في ممرات المبنى الرئيسي حاملا بيدي حقيبتي، الممرات خالية تماما إلا من موظفي الأمن الذين توقفت عندهم، رغم معرفتي، سألتهم عن مبنى 5، لأن كان يبدو عليّ التيه، وصف لي مكانه بالضبط، شكرته، واتبعت ما أملاه عليّ. 
استمريت بالمشي تاركا ورائي المبنى الرئيسي، وأمضي بين مباني المستشفى الشاهقة، يسود عليها الظلام، بيد أنّ إضاءات الممرات التي يغلب عليها العتمة، صمت صارخ مزعج يخدشه قليلًا صوت خطوات الأطباء والزوار القلائل.
مررت على السوبر ماركت القابعة على بُعد خطوات من مبنى 5، أخذت حاجتي قبل أن أصوم -ما فرضه عليّ الدكتور- الساعة 12 ليلًا.
دخلت المبنى وأجريت كل ما هو مطلوب من تعهد وتحاليل.. إلخ. وأخيرًا دخلت غرفة مشتركة، فيها الكثير من الأسِرَّة، تدلى من الأعلى ستارة تفصل بينهما، كان سريري يقع أوَّل الغرفة، أخيرًا استلقيت على سريري، وزعت نظراتي على الجهاز المركون بجانب رأسي وهو يتدلى منه المغذي والمسكن -فيما بعد-، انهالت عليّ الهواجس والأفكار عن العملية، عن ماذا سيحدث حينها؟ وبعدها؟



في أولى ساعات الليل كان يرافقني صديقي العزيز عليّ جدًّا نوّاف، آنس وحشتي، وأطرب مسامعي بحديثه، هدأ قلقي وغفت هواجسي وبدت لي النوم فكرة لذيذة، استمر جالسًا بجانبي، لا أحد يتكلم، ولكن نعرف مدى جمال هذا الصمت، حتى أذنت له بالرحيل ورحل، لكنه استمر موجودا من خلال تواصله المستمر مع والدي.



استيقظت عند حلول الفجر، وعادت إليّ الهواجس مرَّة أخرى، أخبرني الممرض إنّي الثاني، أي يعني لن يكون موعد العملية 8 صباحًا. كان أطول صباحًا في حياتي، راودتني أفكار عن كل الأخطاء الممكنة، تذكرت كل المرّات التي كان بمقدوري أمشي وامتنعت لأي سبب كان، شدّة ذاكرتي الرحال حتى مررت على كل ذكرى مرتبطة بالمشي، الركض في المدرسة، كرة القدم، أتذكّر حلمي في أن أكون لاعبًا عندما تلاشى من أمامي، عبرت كل الأحداث والمواقف المتعلقة بقدماي.
انقضى الوقت سريعًا وبطيئا في الآن نفسه، لا أعرف كيف حدث ذلك.
حان وقت العملية! نقلوني على سرير آخر ثم أخذوني نحو مبنى آخر ستكون هناك العملية، كنت مستلقيًا على السرير المحمول على النقالة، راحت نظراتي تصب في السقف أو الفراغ؟ لا أدري، ربما لا لكلاهما، لأنني مررت على ممرات المستشفى وخطر في بالي كم مرَّة عبرتُ من هنا وهناك، وجلست انتظر دوري على كراسيّ الانتظار غير المريحة للجلوس طويلًا أبدًا، لمحتُ أوجه كل الأطباء الذين دخلت عندهم، أوَّل من أخبرني عن ضرورة التدخل الجراحي -قبل سنوات-، عمن نصحني باستخدام دعاسات طبيّة، ومن فرض عليّ استخدام جبيرة قدم بلاستيكية أثناء النوم لمدة طويلة، وبعد ذلك، أخبرني أحد الأطباء أن كل ما فعلته هي محاولات بائسة وغير مجدية بالنسبة لحالتي.

(جبيرة تستخدم أثناء النوم)

دخلت غرفة العمليات، استلقيت على سرير العملية، وزعت نظراتي على الممرضين والممرضات الذين يملؤون الغرفة، لم أستطع رؤية واحد منهم على الأقل بسبب أنني لم أرتدِ نظارتي، رغم ذلك إلا أنني حاولت أرى الغرفة الواسعة المليئة بالأجهزة المتوزعة على أرجائها، وقف بجانبي طبيب التخدير، وضع عليّ القناع، وطلب منّي الاستنشاق بقوة قبل ذلك.
فتحت عينيّ على أصوات الممرضات وهم يذهبون ويجيئون، كنت مستلقٍ وعاجز على سيطرة استيعابي إلى حد كبير أضافة أنني لا أشعر بقدمي بتاتًا، حتى جلست وقت طويل ومن ثم بعد ذلك تذكرت كل شيء، ناديت الممرضة لكي أخبرها أنني بكامل وعيي، بسرعة أخرجتني من غرفة الإفاقة نحو غرفة أخرى وهناك استقبلتني عائلتي.

24/2/3.