أثر التحديق.

 


حياة شخص حدّق في وجهك طويلا.

 

دخل عبد العزيز إلى مكتب موظفة الموارد البشرية، وضع جسمه الممتلئ على الكرسي المتجه نحو النافذة المطلة على المجمع التجاري الذي يعمل فيه بالدور الثاني المخصص للشركات، وفي الأسفل مواقف السيارات، سريعة الاكتفاء. انزعج قليلا من وجود أغراضه بجيبه لذلك افرغها على الطاولة: جوال والإيربودز وشيشة إلكترونية.

 

على يده اليمنى موظفة الموارد البشرية بخصلات شعرها البنية الطويلة تتناثر مع نسمة هواء الشتاء، أمامها كوب ستاربكس وأوراق كثيرة وعلى يسارها قليلًا لاب توب ألصقت عليه كومة استكرات مثل: "قف على ناصية الحلم" "سوبر حلوه" "مفيش وقت للانهيار اشتغل وأنت بتعيّط" وغيرها من الاستكرات التي تحتوي على كلام وصور تشعر من خلالها بطاقة إيجابية كما تظن.

 

عدا وقت طويل وهو ينتظر، وفي ذات الوقت خامره إحساس يعجز على فهمه ومعرفة سببه، في بادئ الأمر توقّع بأنه مصاب بشيء ما، لأن لم تكن المرة الأولى التي يثور فيها صدره ثم يسير في كامل بدنه، كانت مثل لفحة هواء باردة مفاجئة، ولم ينته الحال هنا، بل أنه يثور فيه حتى يخيّل له وجهًا يسلب كل نظراته، رغم أنه يحدّق في النافذة أو الفراغ أو أي شيء كان أمامه يعبر من خلاله، إلا أنه كان واضحا للغاية في أنه غارق في لحظة لذيذة قديمة.

كل هذا حدث خلال دقائق معدودة. حتى علت علامات الانزعاج على وجهه مثل مرور ذكرى رائعة في لحظة مصيريّة.

 

فجأة كما لو أنها تكمل حديثا قد بدأته: "لا يمكنك الاستمرار في هذه الوظيفة على وضعك الحالي، لا بد من ايجاد حل لأمرك أمامك خياران إما أن تأخذ قسطًا من الراحة حسب المتاح من رصيد اجازاتك أو نعمل على انهاء خدماتك".

 

ترفع خصلة شعرها عن وجهها وتضعها خلف أذنها. ثم تكمل: "من الصعب جدًّا اتخاذ الخيار الثاني حاليًا لا سيما أنك ابن من أبناء الشركة، نأمل بأن الاجازة الممنوحة لك تجعلك تعود أفضل".

 

لم يبد لكلامها أي ردة فعل، رغم أنه تأمل وجهها أثناء حديثها. احساسه تغلَّب على حواسه، لوهلة استيقظ ضميره ووخزه، أعتذر وقبل ما طرحته في الآن نفسه. استغربت وسكتت. أخذ جواله والإيربودز وشيشته الإلكترونية ثم خرج.

 

مشى قاطعا المكاتب إلى الخارج بخطوات سريعة، تعبّر عن الحرية والفرح وكل شيء يوحي بالراحة والهدوء. يسمع أصوات زملاءه الموظفين باختلاف طبقات أصواتهم من كل اتجاه "إجازة سعيدة". ونداءات كثيرة لم يستجيب لها، بيد أنَّ نداء يذكره جيّدًا، ويستلذ كلما سمعه، رغم يقينه بعدم وجود صاحبه في المكان، حاول تفسير ما حدث.. تشابه أصوات؟ ربما توهمه؟ علَق صوته في ذهنه؟ لا.. لا لم يكن موجودا متأكدا. حاول تجاهل كل شيء ويكمل سيره. وعزز ذلك اقراره بحذف جميع ما يتعلَّق بالعمل مثل الواتساب حتى يعود.

ركب سيارته المازدا، التي لم ينته من أقساطها بعد. ألقى رأسه على المقعد وأغمض عيناه، أحس بأنه ارتشف شيئًا من الراحة المفقودة منذ فترة. الراديو فجأة مثل كل شيء رائع يجيء بدون موعد مسبق، تشتغل أغنية لفنان العرب: "ارتاح يا قلبي خلاص ارتاح .. ما عاد في عمري كثر ما راح" كما لو أن أبو نورة يسمعه: "الدنيا كلها تعب متى نقدر نرتاح؟" بدون سبب واضح دخل في نوبة ضحك. بعدها سكت ورفع صوت الراديو. قطع حبل تساؤلاته صوت خلفه: "طالع يا راعي المازدا؟" رمق فيه عبر المرآة الجانبية ثم هز رأسه موافقًا.

 

الساعة تزحف نحو الظهر مع غياب الشمس تمامًا، الوقت شتاءً. نزل على طريق الملك فهد شمالا متجها إلى شقته بالياسمين. الغيوم في السماء متراكمة حول بعضها البعض توحي باحتمالية هطول المطر. الطريق مزدحم على آخره، والشخوص في سياراتهم متململين، منهكين كذلك عبد العزيز منهم. كان دائمًا يسير باستخدام قوقل ماب رغم حفظه إلا أنه يرغب في معرفة حال الطريق إذا كان مزدحمًا أو لا. راح يسلك طريقه ضمن جموع من السيارات.

وصل إلى منزله ونام.

 

في بادئ الأمر كان يحضر متأخرًا متعذرًا بالتعب وقلة النوم ووجهه يوحي بذلك أصلًّا. أنتج إلى انخفاض أداء عمله واهمال مهامه وتسويفها. ولوحظ بأنه يسرح في أحايين كثيرة. وفي الاجتماعات فجأة تسقط النظرات عليه ثم يجدونه ينظر نحو الجدار. فراغ. نظرات غير مفهومة، لا شيء أمامه يستحق النظر نحوه. أمضى فترة على هذا الحال حتى أنه صار يجيء ببطء شديد للغاية، وبملامح ذهب لونها. تمضي ساعات العمل عليه طويلة جدًّا تنهش روحه تشبه ساعات السجين قبل اعلان حكمه. وفي آخر يوم العمل يهم بالخروج أولًا.

 

استيقظ في يوم أول إجازة بمزاج سيء بسبب حلمه الغريب، لا يذكره بعينه إنما ما تركه من أثر استمرّ معه حتى فيما بعد، تأمل مكتبته، طاولته، سجّادته، كل شيء في الغرفة، بدون سابق انذار، هبّ على صدره إحساسا اعتاده إلا أنه ما زال يثور فيه حتى يطفو ويظهر على ملامحه... ربما هذا ما يسمى بالحنين.

 

استقرت الشمس بعد تبدد الغيوم، ونورها تسلل نافذة شقة عبد العزيز الواقعة في الدور الثالث، وخيوطها بعضها على الأرض وبعضها الآخر على مكتبته. مستلقيا على سريره يتضور جوعًا، كانت الساعة تسير في باحة الثالثة. ارتفعت حاجته إلى أن صارت ملحة.

 

مضى بسيارته على طريق حارته، بحث عن بوفيه يعرفها جيّدًا، حينما تدخل ترى العمال ينتظرون بكل حرارة، يشتهون الزبائن كما يشتهي الزبون الشاورما والبرجر من عندهم. لم تكن الألذ بين المطاعم المجاورة له، إنما يرق قلبه لها. ربما بسبب التساؤلات التي يخلقها في باله أثناء انتظاره، أو بسبب الصدف التي تحدث فيها، وربما لا شيء من ذلك.

طلب برجر وواحد بيبسي وجلس. تذكّر ذات مرّة، كان يقلب في هاتفه أثناء انتظاره ورأى مقطعًا على تويتر يظهر فيه شخص يتحدّث عن السعادة وبعدها قرأ تغريدة عن السعادة أيضَا، وضع جواله في جيبه وضل يفكّر حائرًا "ما هي السعادة؟". وفي ذلك الأثناء دخل أحمد اليمني عامل البقالة الذي يبدو عليه بأنه مستعجل. يعرفه عبد العزيز جيّدا، وجّه السؤال إلى أحمد وأجابه: "أمي. إذا كلّمتها أكون أسعد واحد بالدنيا ولا إذا خزّنت" وضحك، ثم خرج.

كما لو أن النقاش يحدث الآن، رد عليه: "بالنسبة لي إذا شفت وجهها عقب فترة، أحس إني أرضى عن كل الأيام اللي غابت فيها". صرخ العامل الهندي قائلًا: "مجنون أنت! مين كلّم؟ ما فيه أحد". نظر له باستحياء، لم يقل شيئا، أخذ البرجر التي بردت أثناء ذروة حرارة شوقه وبدا يأكل على مهله عكس رغبته تمامًا.